فصل: فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يُسْقِطُ اللِّعَانَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ سَبَبُ وُجُوبِ اللِّعَانِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ سَبَبُ وُجُوبِ اللِّعَانِ وَهُوَ الْقَذْفُ عِنْدَ الْقَاضِي فَسَبَبُ ظُهُورِ الْقَذْفِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةُ إذَا خَاصَمَتْ الْمَرْأَةُ فَأَنْكَرَ الْقَذْفَ وَالْأَفْضَلُ أَنْ تَتْرُكَ الْخُصُومَةَ وَالْمُطَالَبَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ إشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ وَكَذَا تَرْكُهَا مِنْ بَابِ الْفَضْلِ وَالْإِكْرَامِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} فَإِنْ لَمْ تَتْرُكْ وَخَاصَمَتْهُ إلَى الْقَاضِي يُسْتَحْسَنُ لِلْقَاضِي أَنْ يَدْعُوَهُمَا إلَى التَّرْكِ فَيَقُولُ لَهَا: اُتْرُكِي وَأَعْرِضِي عَنْ هَذَا؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ إلَى سَتْرِ الْفَاحِشَةِ وَأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فَإِنْ تَرَكَتْ وَانْصَرَفَتْ ثُمَّ بَدَا لَهَا أَنْ تُخَاصِمَهُ فَلَهَا ذَلِكَ وَإِنْ تَقَادَمَ الْعَهْدُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّهَا وَحَقُّ الْعَبْدِ لَا يَسْقُطُ بِالتَّقَادُمِ فَإِنْ خَاصَمَتْهُ وَادَّعَتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالزِّنَا فَجَحَدَ الزَّوْجُ لَا يُقْبَلُ مِنْهَا فِي إثْبَاتِ الْقَذْفِ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ.
وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ، وَلَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلَا كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي كَمَا لَا يُقْبَلُ فِي إثْبَاتِ الْقَذْفِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ وَأَسْبَابِ الْحُدُودِ، وَلَا يُقْبَلُ فِي إثْبَاتِهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ عَلَى النِّسَاءِ وَلَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَلَا كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي لِتُمْكِنَ زِيَادَةُ شُبْهَةٍ لَيْسَتْ فِي غَيْرِهَا وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَالثَّانِي الْإِقْرَارُ بِالْقَذْفِ وَشَرْطُ ظُهُورِ الْقَذْفِ بِالْبَيِّنَةِ، وَالْإِقْرَارُ هُوَ الْخُصُومَةُ وَالدَّعْوَى لِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يُسْقِطُ اللِّعَانَ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْقِطُ اللِّعَانَ بَعْدَ وُجُوبِهِ وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا سَقَطَ أَوْ لَمْ يَجِبْ أَصْلًا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: كُلُّ مَا يَمْنَعُ وُجُوبَ اللِّعَانِ إذَا اعْتَرَضَ بَعْدَ وُجُوبِهِ يُسْقِطُ كَمَا إذَا جُنَّا بَعْدَ الْقَذْفِ أَوْ جُنَّ أَحَدُهُمَا، أَوْ ارْتَدَّا أَوْ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا، أَوْ خَرِسَا أَوْ خَرِسَ أَحَدُهُمَا، أَوْ قَذَفَ أَحَدُهُمَا إنْسَانًا فَحُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ أَوْ وُطِئَتْ الْمَرْأَةُ وَطْئًا حَرَامًا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَكَذَا إذَا أَبَانَهَا بَعْدَ الْقَذْفِ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ أَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْحَدِّ فَلِأَنَّ الْقَذْفَ أَوْجَبَ اللِّعَانَ فَلَا يُوجِبُ الْحَدَّ.
وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ اللِّعَانِ فَلِزَوَالِ الزَّوْجِيَّةِ وَقِيَامُ الزَّوْجِيَّةِ شَرْطُ جَرَيَانِ حَدِّ اللِّعَانِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَصَّ اللِّعَانَ بِالْأَزْوَاجِ وَلَوْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا لَا يَسْقُطُ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُبْطِلُ الزَّوْجِيَّةَ.
وَلَوْ قَالَ لَهَا: يَا زَانِيَةُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ يَا زَانِيَةُ أَوْجَبَ اللِّعَانَ لَا الْحَدَّ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ الزَّوْجَةَ وَلَمَّا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَقَدْ أَبْطَلَ الزَّوْجِيَّةَ، وَاللِّعَانُ لَا يَجْرِي فِي غَيْرِ الْأَزْوَاج وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَا زَانِيَةُ يَجِبُ الْحَدُّ وَلَا يَجِبُ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهَا بَعْدَ الْإِبَانَةِ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ بَعْدَ الْإِبَانَةِ وَقَذْفُ الْأَجْنَبِيَّةِ يُوجِبُ الْحَدَّ لَا اللِّعَانَ، وَلَوْ أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ سَقَطَ اللِّعَانُ لِتَعَذُّرِ الْإِتْيَانِ بِهِ إذْ مِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُؤْمَرَ أَنْ يَشْهَدَ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ وَهُوَ يَقُولُ إنَّهُ كَاذِبٌ، وَيَجِبُ الْحَدُّ لِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَوْ أَكْذَبَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فِي الْإِنْكَارِ وَصَدَّقَتْ الزَّوْجَ فِي الْقَذْفِ سَقَطَ اللِّعَانُ لِمَا قُلْنَا وَلَا حَدَّ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ لَمْ يَنْعَقِدْ الْقَذْفُ مُوجِبًا لِلِّعَانِ أَصْلًا لِفَوَاتِ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَهَلْ يَجِبُ الْحَدُّ؟ فَمَشَايِخُنَا أَصَّلُوا فِي ذَلِكَ أَصْلًا فَقَالُوا: إنْ كَانَ عَدَمُ وُجُوبِ اللِّعَانِ أَوْ سُقُوطُهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ لِمَعْنًى مِنْ جَانِبِهَا فَلَا حُدُودَ وَلَا لِعَانَ، وَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ صَحِيحًا وَإِنْ كَانَ لِمَعْنًى مِنْ جَانِبِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْقَذْفُ صَحِيحًا فَكَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا يُحَدُّ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ خَرَّجُوا جِنْسَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، فَقَالُوا: إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ يُحَدُّ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ اللِّعَانِ لِمَعْنًى مِنْ جَانِبِهِ وَهُوَ إكْذَابُهُ نَفْسَهُ وَالْقَذْفُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ قَذْفُ عَاقِلٍ بَالِغٍ فَيَجِبُ الْحَدُّ، وَلَوْ أَكَذَبَتْ نَفْسَهَا فِي الْإِنْكَارِ وَصَدَّقَتْ الزَّوْجَ فِي الْقَذْفِ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى صِفَةِ الِالْتِعَانِ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ اللِّعَانِ لِمَعْنًى مِنْ جَانِبِهَا وَهُوَ إكْذَابُهَا نَفْسَهَا وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى صِفَةِ الِالْتِعَانِ وَالزَّوْجُ عَبْدٌ أَوْ كَافِرٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ قَذْفَهَا صَحِيحٌ وَإِنَّمَا سَقَطَ اللِّعَانُ لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ أَنَّهُ عَلَى صِفَةٍ لَا يَصِحُّ مِنْهُ اللِّعَانُ وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى صِفَةِ الِالْتِعَانِ؛ لِأَنَّ قَذْفَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا عَاقِلًا بَالِغًا مُسْلِمًا غَيْرَ مَحْدُودٍ فِي قَذْفٍ وَالزَّوْجَةُ لَا بِصِفَةِ الِالْتِعَانِ بِأَنْ كَانَتْ كَافِرَةً أَوْ مَمْلُوكَةً أَوْ صَبِيَّةً أَوْ مَجْنُونَةً أَوْ زَانِيَةً فَلَا حَدَّ عَلَى الزَّوْجِ وَلَا لِعَانَ؛ لِأَنَّ قَذْفَهَا لَيْسَ بِقَذْفٍ صَحِيحٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّ أَجْنَبِيًّا لَوْ قَذَفَهَا لَا يُحَدُّ وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُسْلِمَةً حُرَّةً عَاقِلَةً عَفِيفَةً إلَّا أَنَّهَا مَحْدُودَةٌ فِي الْقَذْفِ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لَكِنَّ سُقُوطَ اللِّعَانِ لِمَعْنًى مِنْ جَانِبِهَا وَهُوَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَلَا يَجِبُ اللِّعَانُ وَلَا الْحَدُّ كَمَا لَوْ صَدَّقَتْهُ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَقَذَفَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ صَحِيحٌ وَسُقُوطُ اللِّعَانِ لِمَعْنًى فِي الزَّوْجِ وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ سَقَطَ لِمَعْنًى فِي الْمَرْأَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَحْدُودًا وَالْمَرْأَةُ مَحْدُودَةٌ لَا يَجِبُ اللِّعَانُ لِاعْتِبَارِ جَانِبِهَا.
وَإِنْ كَانَ السُّقُوطُ لِمَعْنًى مِنْ جَانِبِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ اللِّعَانُ وَلَا الْحَدُّ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْقَذْفُ الصَّحِيحُ إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِيهِ صِفَاتُ الْمَرْأَةِ إذَا كَانَ الزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ لَا تُعْتَبَرُ وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ صِفَاتُ الزَّوْجِ فَيُعْتَبَرُ الْمَانِعُ بِمَا فِيهِ لَا بِمَا فِيهَا فَكَانَ سُقُوطُ اللِّعَانِ لِمَعْنًى فِي الزَّوْجِ بَعْدَ صِحَّةِ الْقَذْفِ فَيُحَدُّ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: حُكْمُ اللِّعَانِ:

وَأَمَّا حُكْمُ اللِّعَانِ فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ حُكْمِ اللِّعَانِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا يُبْطِلُ حُكْمَهُ.
أَمَّا بَيَانُ حُكْمِ اللِّعَانِ فَلِلِّعَانِ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا أَصْلِيٌّ، وَالْآخَرُ لَيْسَ بِأَصْلِيٍّ.
أَمَّا الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلِّعَانِ فَنَذْكُرُ أَصْلَ الْحُكْمِ وَوَصْفَهُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: هُوَ وُجُوبُ التَّفْرِيقِ مَا دَامَا عَلَى حَالِ اللِّعَانِ لَا وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِنَفْسِ اللِّعَانِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ حَتَّى يَجُوزَ طَلَاقُ الزَّوْجِ وَظِهَارُهُ وَإِيلَاؤُهُ وَيَجْرِي التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا قَبْلَ التَّفْرِيقِ وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: هُوَ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بِنَفْسِ اللِّعَانِ إلَّا أَنَّ عِنْدَ زُفَرَ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ مَا لَمْ يَلْتَعِنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ قَبْلَ أَنْ تَلْتَعِنَ الْمَرْأَةُ.
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْفُرْقَةَ أَمْرٌ يَخْتَصُّ بِالزَّوْجِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِسَبَبِ الْفُرْقَةِ؟ فَلَا يَقِفُ وُقُوعُهَا عَلَى فِعْلِ الْمَرْأَةِ كَالطَّلَاقِ، وَاحْتَجَّ زُفَرُ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا» وَفِي بَقَاءِ النِّكَاحِ اجْتِمَاعُهُمَا وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ.
وَلَنَا مَا رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فَفَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ».
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا لَاعَنَ بَيْنَ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا».
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاعَنَ بَيْنَ الْعَجْلَانَيْ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ اللِّعَانِ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا لَكَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟» قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا فَأَبَيَا فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَدَلَّتْ الْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَقَعُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَلَا بِلِعَانِهَا إذْ لَوْ وَقَعَتْ لَمَا اُحْتُمِلَ التَّفْرِيقُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا بِنَفْسِ اللِّعَانِ؛ وَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ اللِّعَانِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمِلْكَ مَتَى ثَبَتَ لِإِنْسَانٍ لَا يَزُولُ إلَّا بِإِزَالَتِهِ أَوْ بِخُرُوجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي حَقِّهِ لِعَجْزِهِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَلَمْ تُوجَدْ الْإِزَالَةُ مِنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ لَا يُنْبِئُ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْيَمِينِ أَوْ يَمِينٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يُنْبِئُ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ وَلِهَذَا لَا يَزُولُ بِسَائِرِ الشَّهَادَاتِ وَالْأَيْمَانِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الِامْتِنَاعِ ثَابِتَةٌ فَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ ثُمَّ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ مُخَالِفٌ لِآيَةِ اللِّعَانِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ الْأَزْوَاجَ بِاللِّعَانِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ فَلَوْ ثَبَتَتْ الْفُرْقَةُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ فَالزَّوْجَةُ تُلَاعِنُهُ وَهِيَ غَيْرُ زَوْجَةٍ وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ.
وَأَمَّا زُفَرُ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْمُتَلَاعِنَ مُتَفَاعِلٌ مِنْ اللَّعْنِ وَحَقِيقَةُ الْمُتَفَاعِلِ الْمُتَشَاغِلُ بِالْفِعْلِ فَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ لَا يَبْقَى فَاعِلًا حَقِيقَةً فَلَا يَبْقَى مُلَاعِنًا حَقِيقَةً فَلَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ لِإِثْبَاتِ الْفُرْقَةِ عَقِيبَ اللِّعَانِ فَلَا تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ عَقِيبَهُ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ عَقِيبَهُ وُجُوبُ التَّفْرِيقِ فَإِنْ فَرَّقَ الزَّوْجُ بِنَفْسِهِ وَإِلَّا يَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّفْرِيقِ فَإِذَا فَرَّقَ بَعْدَ تَمَامِ اللِّعَانِ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ فَإِنْ أَخْطَأَ الْقَاضِي فَفَرَّقَ قَبْلَ تَمَامِ اللِّعَانِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ الْتَعَنَ أَكْثَرَ اللِّعَانِ نَفَّذَ الْقَاضِي إذَا وَقَعَ بَعْدَ أَكْثَرِ اللِّعَانِ فَقَدْ قَضَى بِالِاجْتِهَادِ فِي مَوْضِعٍ يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ فَيَنْفُذُ قَضَاؤُهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ تَفْرِيقَهُ صَادَفَ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا أَنَّهُ عَرَفَ أَنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ فَاقْتَضَى اجْتِهَادُهُ إلَى أَنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي اللِّعَانِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ اجْتَهَدَ أَنَّ التَّكْرَارَ فِي اللِّعَانِ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّغْلِيظِ وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي الْأَكْثَرِ، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ لَمَّا سَاغَ لِلشَّافِعِيِّ الِاقْتِصَارُ عَلَى لِعَانِ الزَّوْجِ إذَا قَذَفَ الْمَجْنُونَةَ أَوْ الْمَيِّتَةَ فَلَأَنْ يَسُوغَ لَهُ الِاجْتِهَادُ بَعْدَ إكْمَالِ الزَّوْجِ لِعَانَهُ وَإِتْيَانِ الْمَرْأَةِ بِأَكْثَرِ اللِّعَانِ أَوْلَى فَثَبَتَ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي صَادَفَ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ فَيَنْفُذُ فَإِنْ قِيلَ شَرْطُ جَوَازِ الِاجْتِهَادِ أَنْ لَا يُخَالِفَ النَّصَّ وَهَذَا قَدْ خَالَفَ النَّصَّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ وَرَدَ بِاللِّعَانِ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ وَكَذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاعَنَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى ذَلِكَ الْعَدَدِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْعَدَدُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فَالِاجْتِهَادُ إذَا خَالَفَ النَّصَّ بَاطِلٌ فَالْجَوَابُ مَمْنُوعٌ إنْ اجْتِهَادُ الْقَاضِي خَالَفَ النَّصَّ فَإِنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى عَدَدٍ لَا يَنْفِي جَوَازَ الْأَكْثَرِ وَإِقَامَتَهُ مَقَامَ الْكُلِّ وَلَا يَقْتَضِي الْجَوَازَ أَيْضًا، فَلَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ بَلْ كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ فَكَانَ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ، وَفَائِدَتُهُ التَّنْصِيصُ عَلَى الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى الْأَصْلِ وَالْأَوْلَى وَهَذَا لَا يَنْفِي الْجَوَازَ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ أَيْضًا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: الْفُرْقَةُ فِي اللِّعَانِ فُرْقَةٌ بِتَطْلِيقَةٍ بَائِنَةٍ فَيَزُولُ مِلْكُ النِّكَاحِ وَتَثْبُتُ حُرْمَةُ الِاجْتِهَادِ وَالتَّزَوُّجِ مَا دَامَا عَلَى حَالَةِ اللِّعَانِ فَإِنْ أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ فَجُلِدَ الْحَدَّ أَوْ أَكْذَبَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِأَنْ صَدَّقَتْهُ جَازَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا وَيَجْتَمِعَانِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: هِيَ فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَإِنَّهَا تُوجِبُ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً كَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا» وَهُوَ نَصٌّ فِي الْبَابِ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا لَاعَنَ بَيْنَ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيُّ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ فَقَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ كَذَبْتُ عَلَيْهَا إنْ لَمْ أُفَارِقْهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَصَارَ طَلَاقُ الزَّوْجِ عَقِيبَ اللِّعَانِ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ؛ لِأَنَّ عُوَيْمِرٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا بَعْدَ اللِّعَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْفَذَهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُلَاعَنٍ أَنْ يُطَلِّقَ فَإِذَا امْتَنَعَ يَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّفْرِيقِ فَيَكُونُ طَلَاقًا كَمَا فِي الْعِنِّينِ؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْفُرْقَةِ قَذْفُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ اللِّعَانَ وَاللِّعَانُ يُوجِبُ التَّفْرِيقَ وَالتَّفْرِيقُ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ فَكَانَتْ الْفُرْقَةُ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ مُضَافَةً إلَى الْقَذْفِ السَّابِقِ وَكُلُّ فُرْقَةٍ تَكُونُ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ يَكُونُ فِعْلُ الزَّوْجِ سَبَبَهَا تَكُونُ طَلَاقًا كَمَا فِي الْعِنِّينِ وَالْخُلْعِ وَالْإِيلَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ السَّلَفِ: إنَّ كُلَّ فُرْقَةٍ وَقَعَتْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ فَهِيَ طَلَاقٌ مِنْ نَحْوِ إبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حَقِيقَةَ الْمُتَفَاعِلِ هُوَ الْمُتَشَاغِلُ بِالْفِعْلِ وَكَمَا فَرَغَا مِنْ اللِّعَانِ مَا بَقِيَا مُتَلَاعِنَيْنِ حَقِيقَةً فَانْصَرَفَ الْمُرَادُ إلَى الْحُكْمِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ اللِّعَانِ فِيهِمَا ثَابِتًا فَإِذَا أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ وَحُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ بَطَلَ حُكْمُ اللِّعَانِ فَلَمْ يَبْقَ مُتَلَاعِنًا حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَجَازَ اجْتِمَاعُهُمَا وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ: {إنَّهُمْ إنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إذًا أَبَدًا} أَيْ مَا دَامُوا فِي مِلَّتِهِمْ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَفْعَلُوا يُفْلِحُوا فَكَذَا هَذَا وَأَمَّا الْحُكْمُ الَّذِي لَيْسَ بِأَصْلِيٍّ لِلِّعَانِ فَهُوَ وُجُوبُ قَطْعِ النَّسَبِ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْقَذْفِ وَهُوَ الْقَذْفُ بِالْوَلَدِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا لَاعَنَ بَيْنَ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا نَفَى الْوَلَدَ عَنْهُ وَأَلْحَقَهُ بِالْمَرْأَةِ فَصَارَ النَّفْيُ أَحَدَ حُكْمَيْ اللِّعَانِ وَلِأَنَّ الْقَذْفَ إذَا كَانَ بِالْوَلَدِ فَغَرَضُ الزَّوْجِ أَنْ يَنْفِيَ وَلَدًا لَيْسَ مِنْهُ فِي زَعْمِهِ فَوَجَبَ النَّفْيُ تَحْقِيقًا لِغَرَضِهِ وَإِذَا كَانَ وُجُوبُ نَفْيِهِ أَحَدَ حُكْمَيْ اللِّعَانِ فَلَا يَجِبُ قَبْلَ وُجُودِهِ وَعَلَى هَذَا قُلْنَا إنَّ الْقَذْفَ إذَا لَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا اللِّعَانَ أَوْ سَقَطَ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَوَجَبَ الْحَدُّ أَوْ لَمْ يَجِبْ أَوْ لَمْ يَسْقُطْ لَكِنَّهُمَا لَمْ يَتَلَاعَنَا بَعْدُ لَا يَنْقَطِعُ نَسَبُ الْوَلَدِ، وَكَذَا إذَا نَفَى نَسَبَ وَلَدِ حُرَّةٍ فَصَدَّقَتْهُ لَا يَنْقَطِعُ نَسَبُهُ لِتَعَذُّرِ اللِّعَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّنَاقُضِ حَيْثُ تَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ، وَقَدْ قَالَتْ: إنَّهُ صَادِقٌ وَإِذَا تَعَذَّرَ اللِّعَانُ تَعَذَّرَ قَطْعُ النَّسَبِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمُهُ وَيَكُونُ ابْنَهُمَا لَا يُصَدَّقَانِ عَلَى نَفْيِهِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ قَدْ ثَبَتَ وَالنَّسَبُ الثَّابِتُ بِالنِّكَاحِ لَا يَنْقَطِعُ إلَّا بِاللِّعَانِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَلَا يُعْتَبَرُ تَصَادُقُهُمَا عَلَى النَّفْيِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ حَقًّا لِلْوَلَدِ وَفِي تَصَادُقِهِمَا عَلَى النَّفْيِ إبْطَالُ حَقِّ الْوَلَدِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا كَانَ عُلُوقُ الْوَلَدِ فِي حَالٍ لَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا فِيهَا ثُمَّ صَارَتْ بِحَيْثُ يَقَعُ بَيْنَهُمَا اللِّعَانُ نَحْوُ مَا إذَا عُلِّقَتْ وَهِيَ كِتَابِيَّةٌ أَوْ أَمَةٌ ثُمَّ أُعْتِقَتْ الْأَمَةُ أَوْ أَسْلَمَتْ الْكِتَابِيَّةُ فَوَلَدَتْ فَنَفَاهُ أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ نَسَبُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا تَلَاعُنَ بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ اللِّعَانِ وَقْتَ الْعُلُوقِ.
وَقَطْعُ النَّسَبِ حُكْمُ اللِّعَانِ ثُمَّ لِوُجُودِ قَطْعِ النَّسَبِ شَرَائِطُ: مِنْهَا التَّفْرِيقُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَبْلَ التَّفْرِيقِ قَائِمٌ فَلَا يَجِبُ النَّفْيُ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ بِالنَّفْيِ بِحَضْرَةِ الْوِلَادَةِ أَوْ بَعْدَهَا بِيَوْمٍ أَوْ بِيَوْمَيْنِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مُدَّةٍ تُوجَدُ فِيهَا لِتَهْنِئَةٍ أَوْ ابْتِيَاعِ آلَاتِ الْوِلَادَةِ عَادَةً فَإِنْ نَفَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَنْتَفِي وَلَمْ يُوَقِّتْ أَبُو حَنِيفَةَ لِذَلِكَ وَقْتًا.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ وَقَّتَ لَهُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَقَّتَاهُ بِأَكْثَرِ النِّفَاسِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ الْفَوْرَ فَقَالَ: إنْ نَفَاهُ عَلَى الْفَوْرِ انْتَفَى وَإِلَّا لَزِمَهُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ تَرْكَ النَّفْيِ عَلَى الْفَوْرِ إقْرَارٌ مِنْهُ دَلَالَةً فَكَانَ كَالْإِقْرَارِ نَصًّا.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ النِّفَاسَ أَثَرُ الْوِلَادَةِ فَيَصِحُّ نَفْيُ الْوَلَدِ مَا دَامَ أَثَرُ الْوِلَادَةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ يَحْتَاجُ إلَى التَّأَمُّلِ فلابد لَهُ مِنْ زَمَانِ التَّأَمُّلِ وَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ فَتَعَذَّرَ التَّوْقِيتُ فِيهِ فَيَحْكُمُ فِيهِ الْعَادَةُ مِنْ قَبُولِ التَّهْنِئَةِ وَابْتِيَاعِ آلَاتِ الْوِلَادَةِ أَوْ مُضِيِّ مُدَّةٍ يُفْعَلُ ذَلِكَ فِيهَا عَادَةً فَلَا يَصِحُّ نَفْيُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَبِهَذَا يَبْطُلُ اعْتِبَارُ الْفَوْرِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّأَمُّلِ وَالتَّرَوِّي لَا يَحْصُلُ بِالْفَوْرِ وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِي الْغَائِبِ عَنْ امْرَأَتِهِ: إذَا وَلَدَتْ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْوِلَادَةِ حَتَّى قَدِمَ أَوْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ وَهُوَ غَائِبٌ أَنَّهُ لَهُ أَنْ يَنْفِيَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مِقْدَارِ تَهْنِئَةِ الْوَلَدِ وَابْتِيَاعِ آلَاتِ الْوِلَادَةِ وَعِنْدَهُمَا فِي مِقْدَارِ مُدَّةِ النِّفَاسِ بَعْدَ الْقُدُومِ أَوْ بُلُوغِ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَلْزَمُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ فَصَارَ حَالُ الْقُدُومِ وَبُلُوغِ الْخَبَرِ كَحَالِ الْوِلَادَةِ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ جَمِيعًا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: إنْ قَدِمَ قَبْلَ الْفِصَالِ فَلَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ فِي مِقْدَارِ مُدَّةِ النِّفَاسِ وَإِنْ قَدِمَ بَعْدَ الْفِصَالِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ وَلَمْ يُرْوَ هَذَا التَّفْصِيلُ عَنْ مُحَمَّدٍ.
كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَلَدَ قَبْلَ الْفِصَالِ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْ غِذَائِهِ الْأَوَّلِ فَصَارَ كَمُدَّةِ النِّفَاسِ وَبَعْدَ الْفِصَالِ انْتَقَلَ عَنْ ذَلِكَ الْغِذَاءِ وَخَرَجَ عَنْ حَالِ الصِّغَرِ فَلَوْ احْتَمَلَ النَّفْيَ بَعْدَ ذَلِكَ لَاحْتَمَلَ بَعْدَمَا صَارَ شَيْخًا وَذَلِكَ قَبِيحٌ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إنْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ فَلَهُ أَنْ يَنْفِيَ إلَى تَمَامِ مُدَّةِ النِّفَاسِ وَإِنْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَ إلَى تَمَامِ سَنَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَضَى وَقْتُ النِّفَاسِ يُعْتَبَرُ وَقْتُ الرَّضَاعِ وَمُدَّتُهُ سَنَتَانِ عِنْدَهُمَا، وَلَوْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ بَعْدَ حَوْلَيْنِ فَنَفَاهُ ذُكِرَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ النَّسَبَ وَيُلَاعِنُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: يَنْتَفِي الْوَلَدُ إذَا نَفَاهُ بَعْدَ بُلُوغِ الْخَبَرِ إلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَسْبِقَ النَّفْيُ عَنْ الزَّوْجِ مَا يَكُونُ إقْرَارًا مِنْهُ بِنَسَبِ الْوَلَدِ لَا نَصًّا وَلَا دَلَالَةً فَإِنْ سَبَقَ لَا يَقْطَعُ النَّسَبَ مِنْ الْأَبِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِهِ لَا يَحْتَمِلُ النَّفْيَ بِوَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَقَدْ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَالنَّسَبُ حَقُّ الْوَلَدِ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ بِالنَّفْيِ فَالنَّصُّ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: هَذَا وَلَدِي، أَوْ هَذَا الْوَلَدُ مِنِّي.
وَالدَّلَالَةُ هِيَ أَنْ يَسْكُتَ إذَا هُنِّئَ وَلَا يَرُدُّ عَلَى الْمُهَنِّئِ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَسْكُتُ عِنْدَ التَّهْنِئَةِ بِوَلَدٍ لَيْسَ مِنْهُ عَادَةً فَكَانَ السُّكُوتُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ اعْتِرَافًا بِنَسَبِ الْوَلَدِ فَلَا يَمْلِكُ نَفْيَهُ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا هُنِّئَ بِوَلَدِ الْأَمَةِ فَسَكَتَ لَمْ يَكُنْ اعْتِرَافًا وَإِنْ سَكَتَ فِي وَلَدِ الزَّوْجَةِ كَانَ اعْتِرَافًا.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ نَسَبَ وَلَدِ الزَّوْجَةِ قَدْ ثَبَتَ بِالْفِرَاشِ إلَّا أَنَّ لَهُ غَرَضِيَّةَ النَّفْيِ مِنْ الزَّوْجِ فَإِذَا سَكَتَ عِنْدَ التَّهْنِئَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفِيهِ فَبَطَلَتْ الْغَرَضِيَّةُ فَتَقَرَّرَ النَّسَبُ فَأَمَّا وَلَدُ الْأَمَةِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِالدَّعْوَةِ وَلَمْ تُوجَدْ فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ فَأَقَرَّ بِأَحَدِهِمَا وَنَفَى الْآخَرَ فَإِنْ أَقَرَّ بِالْأَوَّلِ وَنَفَى الثَّانِي لَاعَنَ وَلَزِمَهُ الْوَلَدَانِ جَمِيعًا أَمَّا لُزُومُ الْوَلَدَيْنِ فَلِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْأَوَّلِ إقْرَارٌ بِالثَّانِي؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ حَمْلٌ وَاحِدٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ بَعْضِ نَسَبِ الْحَمْلِ دُونَ بَعْضٍ كَالْوَاحِدِ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ نَسَبِ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ فَإِذَا نَفَى الثَّانِيَ فَقَدْ رَجَعَ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ.
وَالنَّسَبُ الْمَقَرُّ بِهِ لَا يُحْتَمَلُ الرُّجُوعُ عَنْهُ فَلَمْ يَصِحَّ نَفْيُهُ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُمَا جَمِيعًا وَيُلَاعَنُ؛ لِأَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِنَسَبِ وَلَدٍ ثُمَّ نَفَاهُ يُلَاعِنُ وَإِنْ كَانَ لَا يُقْطَعُ نَسَبُهُ؛ لِأَنَّ قَطْعَ النَّسَبِ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ اللِّعَانِ بَلْ يَنْفَصِلُ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ شُرِعَ فِي الْمَقْذُوفَةِ بِغَيْرِ وَلَدٍ ثُمَّ إنَّمَا وَجَبَ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِالْأَوَّلِ فَقَدْ وَصَفَ امْرَأَتَهُ بِالْعِفَّةِ وَلَمَّا نَفَى الْوَلَدَ فَقَدْ وَصَفَهَا بِالزِّنَا، وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَفِيفَةٌ ثُمَّ قَالَ لَهَا أَنْتِ زَانِيَةٌ يُلَاعَنُ وَإِنْ نَفَى الْأَوَّلَ وَأَقَرَّ بِالثَّانِي حُدَّ وَلَا لِعَانَ وَيَلْزَمَانِهِ جَمِيعًا أَمَّا ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدَيْنِ فَلِأَنَّ نَفْيَ الْأَوَّلِ وَإِنْ تَضَمَّنَ نَفْيَ الثَّانِي فَالْإِقْرَارُ بِالثَّانِي يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالْأَوَّلِ فَيَصِيرُ مُكَذِّبًا نَفْسَهُ وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ اللِّعَانُ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ يُحَدُّ وَإِذَا حُدَّ لَا يُلَاعَنُ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا نَفَى الْأَوَّلَ فَقَدْ قَذَفَهَا بِالزِّنَا فَلَمَّا أَقَرَّ بِالثَّانِي فَقَدْ وَصَفَهَا بِالْعِفَّةِ.
وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ زَانِيَةٌ ثُمَّ قَالَ لَهَا أَنْتِ عَفِيفَةٌ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ وَلَا يُلَاعَنُ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ حَيًّا وَقْتَ قَطْعِ النَّسَبِ وَهُوَ وَقْتُ التَّفْرِيقِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا يُقْطَعُ نَسَبُهُ مِنْ الْأَبِ حَتَّى لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَمَاتَ ثُمَّ نَفَاهُ الزَّوْجُ يُلَاعِنُ وَيَلْزَمُهُ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يَتَقَرَّرُ بِالْمَوْتِ فَلَا يَحْتَمِلُ الِانْقِطَاعَ وَلَكِنَّهُ يُلَاعِنُ لِوُجُودِ الْقَذْفِ بِنَفْيِ الْوَلَدِ وَانْقِطَاعُ النَّسَبِ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ اللِّعَانِ وَكَذَلِكَ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا مَيِّتٌ فَنَفَاهُمَا يُلَاعَنُ وَيَلْزَمُهُ الْوَلَدَانِ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَنَفَاهُ الزَّوْجُ ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ اللِّعَانِ يُلَاعِنُ الزَّوْجُ وَيَلْزَمُهُ الْوَلَدُ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدَيْنِ فَنَفَاهُمَا ثُمَّ مَاتَا قَبْلَ اللِّعَانِ أَوْ قُتِلَا يُلَاعِنُ وَيَلْزَمُهُ الْوَلَدَانِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَحْتَمِلُ الْقَطْعَ وَيُلَاعَنُ لِمَا قُلْنَا.
وَكَذَا لَوْ نَفَاهُمَا ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ اللِّعَانِ أَوْ قُتِلَ لَزِمَهُ الْوَلَدَانِ؛ لِأَنَّ نَسَبَ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقَطْعَ لِتَقَرُّرِهِ بِالْمَوْتِ فَكَذَا نَسَبُ الْحَيِّ؛ لِأَنَّهُمَا تَوْأَمَانِ وَأَمَّا اللِّعَانُ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يُلَاعَنُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ، وَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَبْطُلُ اللِّعَانُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَبْطُلُ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ اللِّعَانَ قَدْ وَجَبَ بِالنَّفْيِ فَلَوْ بَطَلَ إنَّمَا يَبْطُلُ لِامْتِنَاعِ قَطْعِ النَّسَبِ وَامْتِنَاعُهُ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ اللِّعَانَ؛ لِأَنَّ قَطْعَ النَّسَبِ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ اللِّعَانِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ اللِّعَانِ الْوَاجِبِ بِهَذَا الْقَذْفِ أَعْنِي الْقَذْفَ بِنَفْيِ الْوَلَدِ هُوَ نَفْيُ الْوَلَدِ فَإِذَا تَعَذَّرَ تَحْقِيقُ هَذَا الْمَقْصُودِ لَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ اللِّعَانِ فَائِدَةٌ فَلَا يَنْفِي الْوَلَدَ.
وَلَوْ وَلَدَتْ فَنَفَاهُ وَلَاعَنَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا وَفَرَّقَ وَأَلْزَمَ الْوَلَدَ أُمَّهُ أَوْ لَزِمَهَا بِنَفْسِ التَّفْرِيقِ ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا آخَرَ مِنْ الْغَدِ لَزِمَهُ الْوَلَدَانِ جَمِيعًا وَاللِّعَانُ مَاضٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ الثَّانِي إذْ لَا يُمْكِنُ قَطْعُهُ بِمَا وَجَدَ مِنْ اللِّعَانِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ اللِّعَانِ قَدْ بَطَلَ بِالْفُرْقَةِ فَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ الثَّانِي وَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ هُمَا ابْنَايَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي إقْرَارِهِ بِنَسَبِ الْوَلَدَيْنِ لِكَوْنِهِمَا ثَابِتَيْ النَّسَبِ مِنْهُ شَرْعًا فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ إنَّهُ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ هُمَا ابْنَايَ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ مِنْهُ نَفْيُ الْوَلَدِ وَمَنْ نَفَى الْوَلَدَ فَلُوعِنَ ثُمَّ أَكْذَبَ نَفْسَهُ فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ كَمَا إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ وَاحِدٍ فَقَالَ: هَذَا الْوَلَدُ لَيْسَ مِنِّي فَلَاعَنَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ قَالَ: هُوَ ابْنِي فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ هُمَا ابْنَايَ يَحْتَمِلُ الْإِكْذَابَ وَيَحْتَمِلُ الْإِخْبَارَ عَنْ حُكْمٍ لَزِمَهُ شَرْعًا وَهُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدَيْنِ فَلَا يُجْعَلُ إكْذَابًا مَعَ الِاحْتِمَالِ بَلْ حَمْلُهُ عَلَى الْإِخْبَارِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ إكْذَابًا لَلَزِمَهُ الْحَدُّ، وَلَوْ جُعِلَ إخْبَارًا عَمَّا قُلْنَا لَا يَلْزَمُهُ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ»، وَقَالَ: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» حَتَّى لَوْ قَالَ: كَذَبْت فِي اللِّعَانِ وَفِيمَا قَذَفْتُهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى الْإِكْذَابِ فَزَالَ الِاحْتِمَالُ، وَقَدْ قَالَ مَشَايِخُنَا: إنَّ الْإِقْرَارَ بِالْوَلَدِ بَعْدَ النَّفْيِ إنَّمَا يَكُونُ إكْذَابًا إذَا كَانَ الْمُقِرُّ بِحَالٍ لَوْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ لَلُوعِنَ بِهِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ وَهَاهُنَا لَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقِرَّ بِهِمَا لَمْ يُلَاعَنْ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُقِرَّ بِهِمَا لَلُوعِنَ بِهِ.
وَعَلَى هَذَا قَالُوا: لَوْ وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ وَلَدًا فَقَالَ: هُوَ ابْنِي ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ فَنَفَاهُ، ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُكَذِّبًا نَفْسَهُ بِهَذَا الْإِقْرَارِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ لَا يُلَاعَنُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ لِثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدَيْنِ.
وَلَوْ قَالَ: لَيْسَا بِابْنَيَّ كَانَا ابْنَيْهِ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَعَادَ الْقَذْفَ الْأَوَّلَ وَكَرَّرَهُ؛ لِتَقَدُّمِ الْقَذْفِ مِنْهُ وَاللِّعَانِ، وَالْمُلَاعِنُ إذَا كَرَّرَ الْقَذْفَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.
وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ بِيَوْمٍ فَنَفَاهُ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ سَنَتَيْنِ بِيَوْمٍ فَأَقَرَّ بِهِ فَقَدْ بَانَتْ وَلَا لِعَانَ وَلَا حَدَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هَذِهِ رَجْعِيَّةٌ وَعَلَى الزَّوْجِ الْحَدُّ فَنَذْكُرُ أَصْلَهُمَا وَأَصْلَهُ وَتُخَرَّجُ الْمَسْأَلَةُ عَلَيْهِ فَمِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ الْوَلَدَ الثَّانِيَ يَتْبَعُ الْوَلَدَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّهَا جَاءَتْ بِهِ فِي مُدَّةٍ يَثْبُتُ نَسَبُهُ فِيهَا وَهَكَذَا هُوَ سَابِقٌ فِي الْوِلَادَةِ فَكَانَ الثَّانِي تَابِعًا لَهُ فَجُعِلَ كَأَنَّهَا جَاءَتْ بِهِمَا لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ فَلَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ فَتَبِينُ بِالْوَلَدِ الثَّانِي فَتَصِيرُ أَجْنَبِيَّةً فَيَتَعَذَّرُ اللِّعَانُ.
وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ حَصَلَ مِنْ وَطْءٍ حَادِثٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ بِيَقِينٍ إذْ الْوَلَدُ لَا يَبْقَى فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَالْأَوَّلُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ حَصَلَ مِنْ وَطْءٍ حَادِثٍ أَيْضًا وَإِنَّنَا نَرُدُّ الْمُحْتَمَلَ إلَى الْمُحْكَمِ فَجُعِلَ الْأَوَّلُ تَابِعًا لِلثَّانِي فَصَارَ كَأَنَّهَا وَلَدَتْهُمَا بَعْدَ سَنَتَيْنِ.
وَالْمُطَلَّقَةُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ ثَبَتَتْ الرَّجْعَةُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ وَطْءٍ حَادِثٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ بِيَقِينٍ فَيَصِيرُ مُرَاجِعًا لَهَا بِالْوَطْءِ، فَإِذَا أَقَرَّ بِالثَّانِي بَعْدَ نَفْيِ الْأَوَّلِ فَقَدْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ فَيُحَدُّ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا يُحَدُّ وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدَيْنِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدَيْنِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ الْوَلَدَ الثَّانِيَ يَتْبَعُ الْأَوَّلَ فَتُجْعَلُ كَأَنَّهَا جَاءَتْ بِهِمَا لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُمَا وَلَا يَجِبُ اللِّعَانُ لِزَوَالِ الزَّوْجِيَّةِ وَيَجِبُ الْحَدُّ لِإِكْذَابِ نَفْسِهِ.
وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْأَوَّلَ يَتْبَعُ الثَّانِيَ وَتُجْعَلُ كَأَنَّهَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَالْمَرْأَةُ مَبْتُوتَةٌ وَالْمَبْتُوتَةُ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ لَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا؛ لِأَنَّ مَعَهَا عَلَامَةَ الزِّنَا وَهُوَ وَلَدٌ غَيْرُ ثَابِتِ النَّسَبِ فَلَمْ تَكُنْ عَفِيفَةً فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهَا.
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ نَسَبُ الْوَلَدِ مَحْكُومًا بِثُبُوتِهِ شَرْعًا كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فَإِنْ كَانَ لَا يُقْطَعُ نَسَبُهُ فَصُورَتُهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ جَاءَتْ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ فَنَفَاهُ وَلَمْ يُلَاعِنْ حَتَّى قَذَفَهَا أَجْنَبِيٌّ بِالْوَلَدِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ فَضَرَبَ الْقَاضِي الْأَجْنَبِيَّ الْحَدَّ فَإِنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ يَثْبُتُ مِنْ الزَّوْجِ وَيَسْقُطُ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا حَدَّ قَاذِفَهَا بِالْوَلَدِ فَقَدْ حَكَمَ بِكَذِبِهِ وَالْحُكْمُ بِكَذِبِهِ حُكْمٌ بِثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ وَالنَّسَبُ الْمَحْكُومُ بِثُبُوتِهِ لَا يَحْتَمِلُ النَّفْيَ بِاللِّعَانِ كَالنَّسَبِ الْمَقَرِّ بِهِ وَإِنَّمَا سَقَطَ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَمَّا حَدَّ قَاذِفَهَا فَقَدْ حَكَمَ بِإِحْصَانِهَا فِي عَيْنِ مَا قُذِفَتْ بِهِ ثُمَّ إذَا قَطَعَ النَّسَبَ مِنْ الْأَبِ وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْأُمِّ يَبْقَى النَّسَبُ فِي حَقِّ سَائِرِ الْأَحْكَامِ مِنْ الشَّهَادَةِ وَالزَّكَاةِ وَالْقِصَاصِ وَغَيْرِهَا حَتَّى لَا يَجُوزَ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ وَصَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ، وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْأَبِ بِقَتْلِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجْرِي التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا.
وَلَا نَفَقَةَ عَلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ بِاللِّعَانِ يَثْبُتُ شَرْعًا بِخِلَافِ الْأَصْلِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِ وَظَنِّهِ مَعَ كَوْنِهِ مَوْلُودًا عَلَى فِرَاشِهِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ سَائِرِ الْأَحْكَامِ.